السبت، 16 نوفمبر 2013

الخصومة بين القديم والجديد في الأدب

لقد أخذ النزاع يشتد بين أنصار المذهب القديم وأنصار المذهب الجديد في الأدب؛ ففي الهلال الماضي نشرنا للسيد مصطفى صادق الرافعي دفاعًا عن المذهب القديم بمناسبة ما كتبه عنه الأستاذ سلامة موسى في سلسلة «الصور الموجزة لأدباء مصر»، وعلى أثر مطالعة مقال الرافعي في الهلال كتب الدكتور طه حسين مقالًا نفسيًّا في «السياسة» ضمنه رأيه في هذا النزاع، وقد رأينا أن نثبته هنا لنفاسته. قال الدكتور طه حسين بعد مقدمة وجيزة:
الحق أن ميدان هذه الخصومة أوسع من مجلة «الهلال»، وأن أبطال هذه الخصومة أكثر من الأستاذين سلامة موسى ومصطفى الرافعي. وإذا كان لنا ألَّا نُسرف في استقصاء التاريخ، وألَّا نذهب بالقارئ إلى ما بَعُدَ به العهد؛ فقد يكون لنا أن نُذكِّر القارئ بأن مصدر هذه الخصومة في هذه الأيام الأخيرة إنما هي صحيفة الأدب في «السياسة»، ففي الصيف الماضي اشتدت الخصومة بين الأستاذ الرافعي وطائفة من الكُتَّاب المصريين حول رسالة له بعث بها إلى «السياسة» تحت عنوان «أسلوب في العتب»، وذهب فيها مذهب المتكلِّفين من بعض الكتَّاب القدماء؛ فأنكر عليه بعض الكتَّاب المصريين جمال هذا الأسلوب، وكانت حول هذا الإنكار خصومة طويلة انتهت إلى الشتم والتنابُذ. ثم لم تَكَدْ تنتهي السنة الماضية حتى نشرت «السياسة» لكاتب أديب من كُتَّاب فلسطين هو الأستاذ خليل السكاكيني رسالة حول الأدب القديم والأسلوب الجديد، وحول الإيجاز والإطناب، تناول فيها بالنقد كاتبًا أديبًا من كُتَّاب سورية هو الأمير شكيب أرسلان، فردَّ عليه الأمير ردًّا طويلًا واشتدت المناقشة بين الكاتبين حتى انتهت إلى شيء من العنف ليس بقليل. ثم عرض الأستاذ سلامة موسى للأستاذ الرافعي في مجلة «الهلال» فعده مع الأمير شكيب أرسلان من زعماء المذهب القديم، وأشار إلى الكاتب الأديب خليل السكاكيني على أنه من أنصار المذهب الحديث.
هذا هو التاريخ القريب لهذه الخصومة بين القديم والجديد في الأدب، ويخطئ من ظَنَّ أن هذه الخصومة ستنتهي غدًا أو بعد غدٍ، ويخطئ من سأل نفسه عن قيمة هذه الخصومة وعن آثارها الحسنة أو السيئة؛ فستستمر هذه الخصومة في الأدب العربي كما استمرَّت في الآداب الأخرى، وكما استمرت في الأدب العربي القديم نفسه، وستنتج نتائجها التي أنتجتها في كل زمان وكل مكان؛ فينتصر جديد آخر ينتصر متى آن له الانتصار، وستظل الحال كذلك ما دام للغة العربية والأدب العربي حظ من حياة.
***
هذه الخصومة إذن مشروعة، سواء أَكانت نافعة أم لم تكُن؛ فليس الأدب العربي بِدْعًا من الآداب، وليس الأدب العربي العصري بدعًا من الآداب العربية المختلفة. فليختصمِ الأستاذان سلامة موسى ومصطفى صادق الرافعي، وليختصم الأديبان خليل السكاكيني وشكيب أرسلان، ولكن نظن أن من حقنا نحن القراء على هؤلاء المختصمين أن نسألهم: فِيمَ يختصمون؟ وأن نطلب إليهم في رفق ولين أن يتفضلوا فيحددوا لنا موضوع الخصومة حتى نتبعهم فيها على بصيرة من أمرها ومن أمرنا. فقد يظهر لنا إلى الآن أن هؤلاء المختصمين يختلفون في أشياء لم يستطيعوا بعدُ أن يحددوها، وآية ذلك أنك تقرأ مقال الأستاذ الرافعي فتجده يسأل: ما «المذهب الجديد»؟ وما «المذهب القديم»؟ ويحاول أن يتبين هذين المذهبين وما بينهما من فروق. ولو كانت الخصومة بينه وبين صاحبه واضحة الموضوع بيِّنة الحدود لما كلَّف نفسه هذا التساؤل، ولَمَا احتاج إلى أن يكتب كل هذا الفصل الطويل.
وقُلْ مثل هذا في الخصومة بين الأديبين خليل السكاكيني وشكيب أرسلان، فهما يختلفان في الإيجاز والإطناب والمساواة، يرى أحدهما أن الإطناب خَصلة من خصال اللغة العربية، قد عمد إليها أكبر الكُتَّاب وأرفعهم قدرًا منذ كان النثر العربي إلى الآن، فمن الحق أن نتبع طريقهم في ذلك. ويرى الآخر أن الإطناب خَصلة من خصال اللغة العربية ولكن له مقامه؛ فلا ينبغي أن يعمد إليه الكاتب — ولا سيما في هذا العصر — إلا بمقدار، وإلا حين تدعو إليه الحاجة الأدبية.
ويدور المختصمون جميعًا حول الذوق دون أن يحددوا هذا الذوق. أليس من حقنا أن نسألهم عن حَدِّ هذا الذوق ما هو وما حده وما الذي يريدون منه؟ ولا تقل إن الأستاذ الرافعي قد أجاب على هذا السؤال؛ فنحن نعترف بأن جوابه أَدَقُّ من أن نفهمه، وأشد غموضًا من أن نظهر عليه، وانظر إلى ما يقول في الذوق: «وأنت تعلم أن الذوق الأدبي في شيء إنما هو فهمه، وأن الحكم على شيء إنما هو أثر الذوق فيه، وأن النقد إنما هو الذوق والفهم جميعًا …» نعترف بأنَّا لا نفهم هذا الكلام، بل نعترف بأنَّا نعتقد أن هذا الكلام ليس من شأنه أن يُفهم. فإذا كان الذوق الأدبي في شيء إنما هو فهمه، وإذا كان الحكم على شيء إنما هو أثر الذوق فيه؛ فكيف نستطيع أن نفهم أن النقد إنما هو الفَهم والذوق جميعًا؟! ذلك أن الجملة الأولى صريحة في أن الذوق هو الفَهم، وإذن فالذوق والفهم لفظان يدلان على معنى واحد، وإذن فليسا شيئين وإنما هما شيء واحد هو الفهم، وإذن فالحكم أثر من آثار الفهم. والنقد هو الفهم، وإذن فالنقد والفهم والحكم والذوق كل أولئك شيء واحد تدل عليه ألفاظ مختلفة … نعترف كما قلنا بأننا لم نفهم هذه الجملة ولم نَذُقْها؛ وإذن فنحن لا نستطيع أن ننقدها ولا نحكم فيها لأن الذوق هو الفهم، والفهم هو الحكم، والنقد هو الذوق والفهم معًا. وتستطيع أن تدور في ذلك ما شاء الله أن تدور …
فما زال الأستاذ الرافعي مطالَبًا بأن يوضح لنا نظريته هذه في الذوق، ونحسبه يحتاج في توضيحها إلى عَناء كثير؛ ذلك أنه يخيل إلينا أن الذوق شيء والفهم شيء آخر، وأن من الإسراف أن نقول إن الذوق هو الفهم؛ فقد نفهم أشياء كثيرة دون أن نذوقها، وآية ذلك أنَّا نفهم كثيرًا من كلام الأستاذ الرافعي دون أن نذوقه أو نعجب به. وربما كان لنا أن نذهب إلى أكثر من هذا، فنزعم أننا قد نذوق أشياء كثيرة دون أن نفهمها، وإثبات ذلك ليس بالشيء العسير، فما نظن أن الذين يذوقون الموسيقى ويطربون لها يفهمونها جميعًا، بل نعتقد أن الكثرة المطلَقة من الذين يسمعون للموسيقى فيطربون ويتأثرون وينتهي بهم ذلك إلى شيء يشبه الذهول لا تفهم الموسيقى كما يفهما الموسيقيون الأخصائيون.
فأنت ترى أن الذوق والفهم شيئان مختلفان قد يجتمعان حينما تفهم قصيدة من الشعر أو فصلًا من النثر وتعجب بهما، وحينما تفهم قطعة من الموسيقى وتطرب لها، ولكنهما قد يفترقان حينما تقرأ فصلًا من فصول الكُتَّاب المتكلفين، أو قصيدة من نظم الشعراء المتكلفين، فتفهم النظم وتفهم النثر، ولكنك تكرههما وتسخط عليهما السخط الشديد، وحينما تسمع قطعة من الموسيقى فتعجب وتطرب دون أن تفهم ما أراد الموسيقي.
***
وللأستاذ الرافعي في فصله هذا آراء كهذا الرأي محتاجة إلى شيء من المناقشة، ومنها ما كان يحتاج إلى شيء من التواضع قبل أن يُنشر ويعلن إلى الناس. انظر إليه مثلًا يزعم أن المذهب الجديد في الأدب ليس في حقيقة الأمر إلا نتيجة لضعف في اللغة والأدب العربي، وقوة في اللغة والأدب الأجنبي … وإن الذين يزعمون أنهم من أنصار المذهب الجديد إنما هم قوم ضيَّعوا حظهم من لغة العرب وآدابهم، وأخذوا بنصيب موفور من لغات الفرنج وآدابهم؛ فكانت قوتهم في هذه اللغات والآداب وضعفهم في اللغة العربية وآدابها مصدر تورُّطهم في فنون سخيفة من القول، وكان اعتزازهم بالمذهب الجديد وإنكارهم للمذهب القديم ضربًا من الاعتذار لأنفسهم ولونًا من ألوان الغرور بأنفسهم أيضًا. نعتقد أن الأستاذ الرافعي مُسرِف في هذا الحكم، ولعل مصدر إسرافه في هذا الحكم — إن صحت نظريته السابقة — أنه أخطأ فهم ما يكتب أنصارُ المذهب الجديد، وهو إنما أخطأ الفهم لأنه أخطأ الذوق أو هو إنما أخطأ الذوق لأنه أخطأ الفهم، وتستطيع أن تدور مع الأستاذ الرافعي حول الذوق الذي هو الفهم، أو حول الذوق الذي ليس هو الفهم، والفهم الذي ليس هو الفهم حتى تتعبا فتسقُطا معًا وقد بلغ منكما الكلل والإعياء، ولكن الأستاذ الرافعي معذور على كل حال، فما كان له أن يحكم فيُحسن الحكمَ دون أن يفهم ويذوق، وهو قد يخطئه الفهم والذوق أحيانًا فتخطئه الإصابة في الحكم.
ونظن أن للأستاذ الرافعي حظًّا من الإنصاف، وأنه يرى معنا أن بعض أنصار المذهب الجديد أو الذين يُسَمَّوْنَ أنصار المذهب الجديد قد أخذوا من اللغة العربية وآدابها بحَظٍّ لا بأس به، وأن قوتهم في اللغة الأجنبية وآدابها لم تحملهم على أن يضيعوا حظهم من اللغة العربية وآدابها؛ فهم يستطيعون أن يفهموا الجاحظ كما يستطيعون أن يفهموا «فولتير». وإذن فانتصار هؤلاء لمذهب جديد ليس ضعفًا وليس اعتذارًا لأنفسهم وليس تعصُّبًا للأدب الأجنبي الذي تفوَّقوا فيه. وما نظن أن الأستاذ ينكر على خَصمه سلامة موسى أنه يفهم الأدب العربي كما يفهم الأدب الإنكليزي، ويستطيع أن يحكم فيهما عن فهم هو الذوق، أو الذوق هو الفهم، أو فهم ليس ذوقًا، أو ذوق ليس فهمًا … وما نظن أن الأستاذ ينكر علينا نحن أنَّا نستطيع أن نفهم الأدب العربي وأن نفهم الأدب الفرنسي وأن نحكم فيهما أحيانًا عن ذوق وفهم، أو عن فهم دون ذوق، أو عن ذوق دون فهم …
ثم هب سلامة موسى وغيره من خصوم الأستاذ الرافعي وأنصار المذهب الجديد ضِعافًا في اللغة العربية وآدابها، أقوياء في اللغات الأجنبية وآدابها، فهناك قوم ينصرون المذهب الجديد وليس لهم من اللغات الأجنبية وآدابها حَظٌّ، وحظهم من اللغة العربية وآدابها موفور تدل عليه آثارهم وما ينشرون، فما رأي الأستاذ في هؤلاء؟! وما أصل مذهبهم الجديد وهم يجهلون اللغات الأجنبية ولا يتعصَّبون لها؟! ثم ما لنا نذهب بالأستاذ بعيدًا عن الموضوع الذي أتقنه وبرع فيه. فلسنا نشك في أن الأستاذ أتقن الأدب العربي وأحسن روايته وفهمه وتقليده، وأسرف في هذا التقليد وهو يناقض نفسه بعض المناقضة، فيصرح بأن العرب عرفوا القديم والجديد، فكان القرآن الكريم جديدًا وكانت الآداب العباسية جديدة من بعض وجوهها، وتجددت الآداب العربية غير مرة، يصرح بهذا ولكنه في الوقت نفسه يزعم أن أحدًا من العرب وأدبائهم لم يذكر مذهبًا جديدًا ولا قديمًا؛ وإذن فقد تجددت الآداب العربية غير مرة دون أن يشعر العرب بهذا التجدُّد أو شعر العرب بهذا التجدد دون أن يذكروه.
والحق أن الآداب تجددت غير مرة، وأن العرب شعروا بهذا التجدد وأنهم ذكروه واختصموا فيه، كما يختصم فيه الأستاذ الرافعي وأصحابه الآن، وقد كتبنا في «السياسة» فصولًا طِوالًا في العام الماضي فَصَّلْنَا فيها بعض ما كان من الخصومة بين أنصار القديم وأنصار الجديد أيام بني العباس، وإذا كان العرب لم يصطنعوا لفظة «المذهب الجديد» و«المذهب القديم»؛ فليس ذلك دليلًا على أنهم لم يعرفوا القديم والجديد ولم يذكروهما ولم يختصموا حولهما. وما معنى لفظ «البديع»؟ وهل كان البديع جديدًا أم هل كان قديمًا؟ وهل اختصم الناس حول البديع أم هل قَبِلُوه دون مناقشة ولا جدال؟ وهل امتاز بالبديع من الكتَّاب والشعراء قوم غَلَوْا فيه فرضي عنهم قوم وأنكرهم آخرون؟ أم هل قبله الناس جميعًا وأخذوا منه بحظوظ متساوية؟ وإذا كان الأستاذ لا يُنكر أن العرب اختصموا حول القديم والجديد في الشعر وفي النثر؛ فهل يستطيع أن يعلل لنا هذا الاختصام؟ فليس من شك في أن أنصار الجديد من العباسيين مثلًا لم يكونوا ضِعافًا في اللغة العربية وآدابها، ولم يعتذروا لأنفسهم عن هذا الضعف بتعلُّقهم بالجديد وغُلُوِّهِم فيه. أكان أبو نواس ضعيفًا في اللغة العربية وآدابها؟ أكان أبو تمام ضعيفًا في اللغة العربية وآدابها؟ أكان المتنبي ضعيفًا في اللغة العربية وآدابها؟ ومع ذلك فقد جدد أبو نواس وانتصر للجديد، وقد جدد أبو تمام وانتصر للجديد، وقد جدد المتنبي وانتصر للجديد، وقد اختصم الناس حول هؤلاء الشعراء وتجديدهم؛ فانتصر لهم قوم وسخط عليهم قوم آخرون.
ونستطيع أن نؤكد للأستاذ الرافعي أن الأدباء الفرنسيين الذين كانوا يختصمون حول القديم والجديد كانوا يفهمون اللاتينية واليونانية وآدابهما كما يفهمون الفرنسية وآدابها، وكان منهم مع ذلك من يؤثِر اللاتينية واليونانية، ومنهم من يؤثر الفرنسية، وكان منهم من يؤثر مذهب القدماء، ومنهم من يؤثر مذهب المُحدَثين، فليس المذهب الجديد قائمًا على جهل أو ضعف أو تعصُّب، وإنما هو قائم على شيء آخر غير هذا كله. قائم على الفهم قبل كل شيء. قائم على أن الذين ينصرون هذا المذهب الجديد يحسون ما لا يحسه أنصار المذهب القديم، ويرون ما لا يراه أنصار المذهب القديم، ويشعرون بأنهم يحيون فيريدون أن يأخذوا بحظهم في الحياة، يريدون أن يفهموا الناس وأن يفهمهم الناس، يعيشون مع الجيل الذي هم فيه دون أن يقطعوا الصلة بينهم وبين الأجيال الماضية.
***
ورأي آخر للأستاذ الرافعي يحسن أن نناقشه ولو قليلًا، فهو يرى أن من الخير لأنصار المذهب الجديد أن يُولَدُوا من جديد، وأن يتعلموا الأدب العربي من جديد ليأخذوا منه الحظ الموفور، فيسلكوا فيه سبيل القدماء، ذلك خير لهم من أن ينتحلوا مذهبهم الجديد ولغتهم الجديدة فيُدخِلوا في اللغة والأدب ما ليس من حقهم أن يُدخِلوه؛ ذلك لأن اللغة موروثة وهي ملك لملايين من الأعمار ولطائفة طويلة من العصور، فيجب أن نقبلها كما ورِثناها دون أن نُدخِل فيها شيئًا من عند أنفسنا. ونحن نعترف بأننا نخالف الأستاذ كل المخالفة في هذا الرأي، ونسمح لأنفسنا بأن نراه عقيمًا، ونسمح لأنفسنا بأن نزعم أن لنا في هذه اللغة التي نتكلمها ونتخذها أداة للفهم والإفهام حظًّا يجعلها ملكًا لنا، ويجعل من الحق علينا أن نُضِيفَ إليها ونزيد فيها كلما دعت إلى ذلك الحاجة أو قضت ضرورة الفهم والإفهام أو كلما دعا إليه الظرف الفني. لا يقيدنا في ذلك إلا قواعد اللغة العامة التي تُفسِد اللغة إذا تجاوزناها؛ فليس لأحد أن يمنعك أو يمنعني أن نُضيفَ إلى اللغة لفظًا جديدًا أو نُدخِل فيها أسلوبًا جديدًا ما دام هذا اللفظ أو هذا الأسلوب ليس من شأنهما أن يُفسِدا أصلًا من أصول اللغة، أو يَخرُجا بها عن طريقها المألوفة، ولولا هذا وأن اللغة ملك لأبنائها يضيفون إليها ويدخلون فيها لَمَا نَمَت اللغة ولما عاشت، ولما استطاعت أن تفي حاجات أهلها التي تتجدد وتتنوع بتجدد الأزمنة وتبدل الظروف.
والكتَّاب والشعراء في كل عصر وفي كل مكان يضيفون إلى لغاتهم ويُدخِلون فيها ويُجدِّدونها، فمنهم من يسعده الحظ فتروج ألفاظه وأساليبه ويقبلها الناس ويتهالكون عليها حتى تشيع وتصبح جزءًا من اللغة المألوفة، ومنهم من يخطئه هذا الحظ فلا يحفل الناس بما أدخل ولا بما أضاف.
***
ومما يحسن أن ينبه إليه الأستاذ الرافعي في رفق ولين أيضًا أنه يُسْرِفُ في سوء الظن بأوروبا وأمريكا وفي سوء الحكم عليهما، ولعل مصدر ذلك أنه لا يقرأ لغة أوروبا وأمريكا ولا يفهمها ولا يذوقها؛ فهو يخطئ في الحكم على أوروبا وأمريكا. وهو مسرف حين يظن «أن في أوروبا وأمريكا من الغفلة مذهبًا، ومن الرقاعة مذهبًا، ومن تسفُّل الشهوات مذهبًا، ومن الجنون مذهبًا، ومن كل شذوذ مذهبًا، ومن غير المذهب مذهبًا …» هو مسرف في ذلك فليست أوروبا وأمريكا من السوء بحيث يظن، ولو قد بلغتا من السوء هذا الحد لما كان لهما التفوق على غيرهما من بلاد الله. ثم إن اختلاف المذاهب وتنوعها في أوروبا وأمريكا ليس شيئًا جديدًا وإنما هو شيء عرفه الإنسان منذ تحضَّر ومنذ فكر، ويسوءنا أن نقول إن الإنسان قد عرف الديانات منذ تحضَّر ومنذ فكر أيضًا، فما استطاعت الديانات أن تقضي على اختلاف المذاهب، ولا استطاع اختلاف المذاهب أن يقضي على الديانات، وإنما الإنسان إنسان فيه الخير وفيه الشر، فيه الإيمان وفيه الإلحاد، فيه الفضيلة وفيه الرذيلة، فيه الإباحة التي لا حَدَّ لها وفيه التحرُّج الشديد.
والأستاذ الرافعي كغيره من أنصار المذهب القديم مُشفِق كل الإشفاق على القرآن الكريم وعلى الإسلام أن يصيبهما من المذهب الجديد شر أو ينالهما ضيم. ونظن من السخف والإطالة التي لا تُجْدِي أن نُهَوِّنَ على الأستاذ ونهدئ من روعه؛ فليس ما يدعو إلى هذا الإشفاق، ونظن أننا — ونحن من أنصار المذهب الجديد المتشددين في نصره — نستطيع أن نفهم القرآن الكريم ونذوقه كما يفهمه الأستاذ وأصحابه ويذوقونه؛ ذلك أن مذهبنا الجديد لا يقتل اللغة ولا يصرف الناس عنها ولا يغير من أصولها وقواعدها، وإنما يريد أن تكون اللغة حية نامية. ومن ذكر الحياة والنمو فقد ذكر التطوُّر، ومن ذكر التطور وآمَن به فهو من أنصار المذهب الجديد سواء أرضي ذلك أم أنكره.
-

الخميس، 14 نوفمبر 2013

د.عدنان ابراهيم يفضح الوهابية على الهواء مباشرة

حديث القردة الزانية ورجمها لا تعليق

الشيخ (( الجنيص )) بتاع السلفيين انا من متابعين هذا الرجل منذ فتره طويلة جدا حتى احمد الله على نعمة العقل
عندما تستمع الى الشيخ الحويني يجعلك تعتقد انه عالم صواريخ نووية عابرة للقارات
لانه كل الوقت يصف نفسه بالعالم و انه من العلماء الذي قل الزمان ان يجود بمثلهم
و يعجبنى جدا عندما يتحدث عن التخصص فيقول لا تتحدث عن شيء انت لست متخصص فيه هو يعتقد ان هذه الأحاديث لها تخصص و يعتقد انه طبيب و هناك تخصصات انف و اذن و حنجرة و نساء و ولادة الى اخر هذه الافرع من فروع الطب
هو يريد ان يقارن قال فلان عن فلان عن فلان مع علوم حقيقة حتى يعطي لما يدعي انه علم مصداقية لمن يسمعه و يسمى جلسات التخلف العقلى التى يعقدها محاضرات و يحكى فيها عن القردة الزانية و ارضاع الكبير و بول البعير و يتهم الاحرين بالجهل و الكفر بكل حرية
المشكلة الكبرى انهم يفتون فى كل شيء ان كان طب او هندسة و حتى علوم فضاء و بكل حرية فهم علماء الامة و على سبيل المثال المعتوه محمد حسان يصف ماء المطر علاج فعلا اننا نعيش فى عصر المسخرة عندما نعطى لهؤلاء الحثالة البشرية قيمة ثم بعد هذا نقول لماذا سبقنا الغرب
طيب سؤال
ماذا قدمت للعالم بهذا العلم الفظيع ؟؟؟؟ الإجابة لا شيء الا بعض المعاتيه التى تقتل الناس و تفجرهم و تقطع رقابهم و تأكل أكبادهم هذا هو ما قدمتموه للعالم من هذه العلوم

الأحد، 3 نوفمبر 2013

حوار مع فتحي المسكيني

حوار خاص مع الفيلسوف التونسي

فتحي المسكيني


اجراه نورالدين علوش- المغرب

بداية من هو الفيلسوف فتحي المسكيني؟

عجيب أمر السؤال "من؟" كيف يختزلنا إلى هذا الحدّ. كأنّه يمكن فعلا لأيّ شخص أن يعرّف "نفسه" بهذا اليسر والصرامة أو الاطمئنان. أنا من مواليد سنة 1961 في مدينة جميلة تقع في الشمال الغربي من تونس، اسمها "بوسالم". كما ترى أنا من مكان مسالم، والسؤال "من ؟" يتطلب أكثر من ذلك. يقول نيتشه إنّه نادرا ما يكون المرء شخصا. فما بالك بالذي يحمل تهمة أو وزر "الفيلسوف". وهذه تهمة ثقيلة. أنا ناصفت القرن منذ سنة وصرت إذن من قدماء البشر. أحمل دكتوراه الدولة في الفلسفة، وأخجل من تصنيف الناس حسب شهائدهم. لأنّ من تمدرس في قلبه، وهذا شيء عرفناه بفضل الثورة، ربما كان أقرب من جميع الأستاذين إلى محبة الحقيقة وحمايتها بجسمه الكريم. أنا حضري مؤقت أو مزيّف، بوجه ما، لأنّ طباع جبال الشمال وآداب مجاورة الوادي الكبير (مجردة) لا تزال تحت أنفاسي كأوّل مرة. وإن كنّا نعود إلى القرية، كما قال سلوتردايك، بشكل "ما بعد تاريخي". لم نعد جزء منها، لكنها لا تزال جزء منّا.
في واقع الأمر أنا لا أملك سيرة فلسفية خاصة. أنا جزء من الجامعة التونسية. وهي التي مرّت بسلسلة من الاهتمامات الحاسمة، وكان هيدغر واحدا منها. لكنّ مقاعد الدراسة لا تكفي لتبرير طبيعة الحياة الفكرية التي تختارنا ذات مرة. وبصراحة، ظلت الجامعة التونسية تابعة للتقليد الفرنسي، ونحن جزء من هذا التقليد، حتى الذين يرفضون ذلك. لكنّ بعض الشرف الذي حصل في الأثناء هو ظهور نوع من المقاومة الرمزية لهيمنة التقليد الفرنسي، مثل التجرؤ على كتابة الأطروحات الجامعية بالعربية، وخاصة حول الفلسفة الغربية، لأنّ الكتابة بالعربية عن الفلسفة العربية هو أمر طبيعي.
أنا جزء من جيل حاول – ربما تحت وحي حدث تاريخاني كبير هو حرب الخليج الأولى سنة 1990- أن يغيّر قبلة الفلسفة في تونس، وذلك بالانخراط في خطة متكاملة للإنتاج النظري الجامعي بالعربية، ونعني خاصة أطروحات الدكتوراه والتأليف ما بعد الدكتوراه والتدريس المختص. كان ذلك الحدث حافزا حاسما، رغم أنّ هناك من سبقنا بشكل شخصي نحو هذا الاتجاه منذ الثمانينات. ما قمنا به نحن هو مأسسة هذا الاختيار وفرضه بطرق رسمية وعامة.

المطلع على كتاباتكم يلاحظ ارتباطكم الكبير بالفلسفة الألمانية وخاصة فلسفة هيدغر، فلماذا هذا الاهتمام؟

كنت أبحث عن فيلسوف قادر على أن يوفّر لي أدوات تجريب نظري على مسائل محددة سلفا، وتتعلق أساسا بمشاكل وجودية وتأويلية. أنا لم آت إلى الفلسفة (بعد الباكلوريا) فارغ اليدين من أيّ آفاق انتظار خاصة. فأنا قبل ذلك، وربما بعد ذلك، أنا شاعر. وكتبت الشعر منذ وقت مبكّر جدّا (في الثالثة عشرة من العمر). ولا زلت أكتب الشعر بشكل مستمر. وإن كنت لا أهتمّ بالنشر كثيرا. هيدغر استجاب إلى تطلّعاتي، ولم يفرض عليّ شيئا من خارج أفق انتظاري. وتجربة الشعر وضعتني في ورشة جبران بشكل مبكّر، ممّا يعني أنّني دخلت إلى ورشة نيتشه دون أن أدري. وهذا ما وقع: فقد قرأت كتاب زرادشت وكتاب النبي في نفس الوقت، في الخامسة عشرة من العمر. وهذه أحداث خاصة وضعتني على الطريق نحو هيدغر بشكل لم أستطع مقاومته. وهو ما تواصل بعد ذلك مع بعض تلاميذ هيدغر مثل دريدا أو سلوتردايك. وكل الذين يزورون ورشته على نفقة فلسفية أو تأويلية خاصة مثل نغري أو رورتي، ...
كنت أشعر دوماً أنّ بين العرب والألمان أواصر قرابة مثيرة وغامضة. كلّ منهما له لغة صعبة وذات أصالة خاصة. وله مجد ضائع. ودين خطير قادر على ترجمة مضامينه الدلالية إلى آداب مدنية صارمة وكونية. وله حسّ انتماء عميق جدّا ولا يقبل التفاوض أو الانصهار في أيّ قومية أخرى. لكنّ القومية العميقة في لغة الألمان لم تمنعهم من تطوير أخطر وأعظم القيم الكونية في تاريخ العقل الفلسفي. وهذا ما دفعني على اعتبار تقليد الفلسفة الألمانية من كانط إلى سلوتردايك هو ببساطة مجال التجريب المناسب لتفكيري الخاص. ولذلك اعتبرت العمل على هيدغر في أطروحة الدكتوراه، اختيارا موفّقا، ليس فقط لأسباب أكاديمية، بل خاصة لأسباب شخصية: التدرّب من الداخل على التفكير المعاصر ولكن باللغة العربية. وهو ما جعل مشاكل الانتماء والهوية والقومية والدين مشاكل مطروحة من داخل المدونة الفلسفية العريقة وليس مجرد نقاش هووي أو دعوي لا صلاحية كونية له.
هيدغر علّمني كيف أفكّر بشكل خاص وكوني في نفس واحد. والاشتغال عليه وفّر لي فرصة امتحان إمكانية التفلسف بالعربية ولكن بشكل كوني. وذلك أنّه ليس أكثر كونية من السؤال عن معنى الكينونة. وكيف عمل في لحم اللغات الميتافيزيقية الكبرى – والعربية إحداها- وأنتج العالم كما نعرفه اليوم، عالم عصر التقنية.

سيدي الكريم، هناك الكثير من الباحثين العرب يجتنبون هيدغر بسبب الصعوبات التي تواجههم أثناء الاشتغال على المتن الهيدغري، وخاصة كتابه العمدة "الوجود والزمان"  كيف تتمكنون من تجاوز هذه الصعوبات؟

علينا التمييز بين الصعوبة النبيلة والعسر الأحمق. كل النصوص الفلسفية متى قُرئت بشكل عميق وجذري هي صعبة، وتملك غموضها الخاص. وهو أمر ناجم عن كونها في جوهرها تمرينا كونيا لا يقف عند ثقافة هذا الشعب أو ذاك. قلت "كوني" ولم أقل "كلّي": ليس المقصود هو محاكاة اللغة الصورية أو الرياضية الكلية للعلوم. إنّ المشكل الرياضي صعب، لكنّ صعوبته تقنية ويمكن حلّها وتعليمها للناشئة في شكل تطبيقات وقواعد آلية صارمة. أمّا المشكل الفلسفي فليس تقنيا في أساسه. ولا قواعد له يمكن تطبيقها بشكل آلي. وهيدغر دفع بهذه الخاصية في التفكير الفلسفي إلى أقصاها: أنّ المفهوم الفلسفي ينبت دائما في تربة قومية. ومع ذلك هو كوني إلى حدّ المستحيل. لا يمكن التفلسف في شكل قائمة من المشاكل المنطقية أو الرياضية التي لا حلّ لها. فهذا علم سيّء أو إبستيمولوجيا كسولة بلا فلسفة. الفلسفة شيء لا علاقة له بالعلم. وبعبارة واحدة لهيدغر: العلم لا يفكّر. والقصد هو لا يفكّر بشكل كوني في الكينونة. رغم أنّه ينتج معرفة كلية بالكائن.
كل الصعوبة مع هيدغر تكمن في لغته. لكنّ أفكاره ليست صعبة إلاّ لمن لا يعتبرها مشاكله الخاصة كفيلسوف. هيدغر لا يقبل في ورشته مناطقة فرحين بما عندهم ولا نقادا يداوون عجزهم عن العلم بشتم الميتافيزيقا. ينبغي أن نحبّ ما يفعله هيدغر حتى نفهمه. وأن ننخرط معه في تجريب واسع النطاق لنفس المشاكل التي طرحها، ولكن بالإمكانات الثاوية في لغتنا. وحسب تقديري، هيدغر هو توحيدي يتكلم معجما يونانيا. وهذا أحد أسرار صعوبته. ولأنّ لغتنا كانت وثنية ثم صارت توحيدية فهي توفّر مخازن اصطلاحية لم نستفد منها إلى حدّ الآن بالشكل الكافي أو المناسب، ليس فقط في استجلاء غوامض لغة هيدغر ومتنه الكبير، بل في استنطاق كل تلاميذه، وخاصة دريدا أو ليفناس.
لقد اشتغلت على ترجمة كتاب "الكينونة والزمان" من جويلية 2003 إلى جانفي 2010. ولم يكن عملا سهلا أبدا. ولقد اضطررت إلى تغيير اختياراتي الاصطلاحية عديد المرات، حتى أظفر بالتوازن أو بالاقتصاد المناسب في المصطلح، الذي يضمن لي إخراجا متكاملا لشروط إمكان فهم محمود لمقاصد هيدغر على مدى مئات الصفحات. وهو يبني مسائل متراكبة ومترابطة ومتساوقة بشكل منقطع النظير. لكنّني عدت إلى نيتشه سنة 2010 وترجمت في جنيالوجيا الأخلاق، ثم سنة 2011 إلى كانط وترجمت الدين في حدود مجرد العقل. ليس هيدغر مهمّا بحدّ ذاته بل بقدر ما يرمي بنا بكلّ جذورنا في حلبة تأويلية قاسية ولكن عميقة وكريمة بشكل فظيع. وليست تلك الحلبة غير نمط كينونتنا الخاصة وقد انفجرت بين أيدينا في شكل نصوص بكر ووضعيات قصوى ولغات شبقة واختلافات لم يعد يمكن إرجاؤها حتى تتكوّن أيّة هوية مريحة. هيدغر لا يُحَبّ من طرف واحد. ولا يُحَبّ معزولا. بل ينبغي أن نتلطّف معه حتى نرى فيه أنفسنا القديمة والجديدة على حدّ سواء 
.
مع العودة القوية للفيلسوف الألماني هيدغر في الفلسفة المعاصرة خاصة من طرف فلاسفة ما بعد الحداثة (اغامبين...)، هل ممكن الحديث عن ما بعد العقل التأويلي؟

نحن نحاول الخروج من العصر التأويلي للعقل منذ مدّة ليست بقصيرة. لبعض الوقت بدا وكأنّ تجارب المعنى يمكن أن تكون بديلا مفيدا عن جفاف العلم وصحراء التحليل المنطقي للغة. لكنّ من يعرف ماضي التأويلية – وكلّ ماض يظلّ قاعة انتظار رهيبة تحاصر كلّ تكفير حرّ لأنّ التفكير الحرّ يتمّ دائما انطلاقا من المستقبل- هو يعرف أيضا بنفس القدر أنّ حماية حقول المعاني، مثل حماية الكتب المقدّسة والآثار الفلسفية والروائع الأدبية والفنية...، هي مهنة عتيقة وبلا أفق. والتأويل الذي لا يسخر من نفسه ولا يملك دائما فرصة وضع حدّ لأطماعه في التحول إلى عقل كسول ومريح، هو تأويل سيّء، ولا يصمد كثيرا أمام الانتظارات الهووية التي تؤرق كل الثقافات. هناك دوما "ما بعد" مما. شريطة أن نفهم ذلك في معنى طوبيقي وليس في معنى زماني بالضرورة. نحن "بعد" أنفسنا دائما. و"قبلها" أيضا بمعنى ما. لا أحد يقبل اليوم أن يظلّ مجرد "مؤوّل" لنصوص ميّتة أو فقدت علاقتها بهواجس الإنسانية الحالية. لم يعد مناسبا للعقل التأويلي أن يكتفي بتوفير تخريجات مرضية أو محترمة أو علاجية لمشاكل ماتت. التأويل يمكن أن يكون تملّكا بائسا للعقول الكسولة، مهما كان حجمها، فردا كانت أم دولة .لذلك فإنّ مهمّة المستقبل لن تكون تأويلية إلاّ عرضا أو بشكل مؤقت. مهنة المستقبل هي التفكير الحرّ. وهو موقف لا يزال صعبا جدّا على الأجيال الحالية.

سيدي الكريم، تطرح في كتابتكم الفلسفة، إشكاليات عديدة منها إشكالية الحرية والهوية، فكيف يمكننا معاجلتها فلسفيا؟

في الغرب الحديث ظلّ مشكل الحرية يتراوح بين "فهم الضرورة" (في الطبيعة) أو "الوعي بالضرورة" (في التاريخ)، أي بين سبينوزا وهيغل. لكنّ المجتمعات المركّبة الحالية، لم تعد تُفهَم لا بنموذج الطبيعة ولا بنموذج التاريخ. هي أوّل مجتمعات بلا طبيعة مستقرة. وأوّل مجتمعات ليس لها تاريخ واحد. إنّ الحداثة نفسها، كما بدأنا نفهم بشكل واسع، هي الطور الأخير من التوحيد، بعد ترجمة قيمه في قوالب المعجم اليوناني والروماني. لا يعني ذلك أنّها مجرّد "علمنة" لضرب من المضامين اللاهوتية الخجولة، كما شاع منذ كارل شميت. وبالتالي أنّ اللاهوت السياسي هو مفتاح تفسيرها. بل قد أثبت بلومنبورغ أنّ "العصور الحديثة" هي "أزمنة جديدة" لها "مشروعيتها الخاصة". ونعني بذلك أنّها نابعة من تجارب حرية من نوع جديد تماما، وساهم فيها رجال دين إلى جانب أجيال من غير المتدينين. التقابل بين العلمي والديني تقابل كسول ولا يساعدنا كثيرا على تغيير طبيعة المشكل.
ما قصدت تبيانه هو أنّنا نشهد اليوم نهاية العصر الهووي على كامل الأصعدة. وفي المقابل فإنّ معجم الحرية لا يزال لدينا فقيرا وهشّا. لكنّنا لا نعني بذلك نهاية الهويات أو فسادها أو قرب انقراضها. ليس الخطر في الهوية بل في الهووي. الهووي هو كلّ شعور متسلّط يريد أن يفرض تأويلا واحدا وغالبا لأنفسنا باسم هذا الوثن أو ذاك. وهذا المركب الهووي ليس حكرا على المتدينين أو السلفيين. ففي كل حزب من أحزاب الحداثة هناك هوويون، أي سلفيون مناضلون لفرض سلطة روحية أو معيارية باعتبارها هي إرادة الخطاب التي تحرك الجميع أو يجب أن تحركهم.
ولذلك فإنّ الجديد في المقابل هو ولادة مفهوم جديد للحرية: لم تعد الحرية توقيعا خاصا بهذا الحزب أو ذاك. فقد يمكن أن يكون التنوير مستبدّا. كما يمكن لحركة روحانية أن تكون شكلا متقدّما من النضال من أجل حرية الضمير. الحرية أفق لكل ما هو حيوي. والاستبداد هو سقف قاهر لكل ما هو هووي. ولذلك يمكن أن توجد هوية نشطة وحرة، كما يمكن أن توجد حرية غير حرة وتابعة وكسولة. والحداثة نفسها دخلت في أفق أنفسنا الحديثة بشكل غير حر. كذلك التنوير. وآن الأوان لتحرير الحرية نفسها من سياسات الاستيراد وحاجات الاستهلاك التنويري. كما آن الأوان لتحرير الهوية نفسها من سياسات الاستبداد وحاجات الاستهلاك الدعوي. نحن نقدّر أنّه هناك إله فاعل وموجب وإثباتي، كما أنّ هناك إلهاً انفعاليا وسالبا وعدميا. وهذا يعني أنّ خصومة الإلحاد هي مزيفة وقاصرة عن أفقها الأخلاقي، أي أفق الحرية الموجبة.

سيدي الكريم، توظف الكثير من المفاهيم الفلسفية السياسية المعاصرة: كالإمبراطورية والجمهور لنغري، والريزوم والمسطح لدولوز، فكيف يمكن توظيفها في قراءة واقعنا السياسي والثقافي؟

من يفكّر يبحث دوما عن أدوات تفكيره في أي مكان. وفي الحقيقة، ما كنت أعوّل عليه في فترة طويلة، هو استدعاء العقول المعاصرة إلى مشاكلنا، ومحاولة الاستضاءة بهم في بناء ورشات عمل داخلية تساعد ثقافتنا على الانخراط في سياسة حقيقة من نوع جديد. وهذا كان اختيارا مؤقتا وعرضيا. لأنّه ما كان لنا أن نستفيد من فكرة "الإمبراطورية" لو لم يكن لها أنساب مفهومية في مدوّناتنا القديمة، مثل "الدولة العامة" أو "الخلافة"، الخ... والأمر نفسه يصدق على الريزوم والمسطّح أو الصعيد،... ونعني بذلك مفهومات من قبيل "النوابت" و"العصبية" و"الصحراء"،... في الواقع ليس لنا "واقع سياسي وثقافي" خاص بنا. نحن جزء لا يتجزأ من مشاكل معولمة، تخترقنا ونخترقها. ولذلك نحن نظل في حاجة إلى اقتباس أدوات التفكير في أنفسنا الحالية من أي مكان.

سيدي الكريم، أنتم تدرّسون الفلسفة المعاصرة، فلماذا لا تهتمون بأكسيل هونيث وسيلا بنحبيب وأنطونيو نغري وأغامبيو؟

هؤلاء كتبوا في مسائل تهمني، نعني مثلا قضية سياسات الاعتراف والهوية والاختلاف وحقوق الآخر والجمهور والحيوي،... وهذه كلها مسائل في فم الزمان، ولم يخترعها أحد، بل أفضل ما يقوم به أحدهم هو اختراع لعبة لغوية مناسبة للتفكير بشكل أكثر حدّة أو طرافة في نفس المشاكل. وهؤلاء مؤلفون أهتمّ بهم، وأقتبس منهم، وأحاول أن أجرّهم إلى التفكير معهم من داخل مشاكلنا، ولي برامج عديدة لترجمتهم...

باعتباركم من المترجمين الكبار في مجال الفلسفة المعاصرة، لماذا لا تهتمون بترجمة كتابات أنطونيو نغري وأغامبيو وكارل شميت وليو شتراوس؟

ثمة تفكير جدّي في ترجمتهم ونحن نعمل على تكوين جماعة من المترجمين الشبان القادرين على تأمين استدعاء مناسب لكتابات هؤلاء وامتلاك جزء محمود من المكاسب النظرية والفلسفية التي حققوها. لكنّ الترجمة تختلف عن مجرد القراءة. إنّها عمل يتطلب التزامًا شبه نسكي فظيعا، ونادرا ما يتمّ الإيفاء به بشكل مرضي أو كاف. وفي الحقيقة أنا لست مترجما محترفا. بل لي غيرة كبيرة على النصوص الفلسفية وعلى الفلسفة كفن عزيز لا ينبغي على هذا الجيل أن يفرّط فيه. واهتديت آخر المطاف إلى أنّ الترجمة الفلسفية هي أيضا عمل فلسفي له أصالته الخاصة ولا يجب الخجل به أو الخوف منه. والمترجم لن يكون أو يصير عقيما من ناحية التفكير إلاّ إذا كان مترجما سيّئا.