السبت، 16 نوفمبر 2013

الخصومة بين القديم والجديد في الأدب

لقد أخذ النزاع يشتد بين أنصار المذهب القديم وأنصار المذهب الجديد في الأدب؛ ففي الهلال الماضي نشرنا للسيد مصطفى صادق الرافعي دفاعًا عن المذهب القديم بمناسبة ما كتبه عنه الأستاذ سلامة موسى في سلسلة «الصور الموجزة لأدباء مصر»، وعلى أثر مطالعة مقال الرافعي في الهلال كتب الدكتور طه حسين مقالًا نفسيًّا في «السياسة» ضمنه رأيه في هذا النزاع، وقد رأينا أن نثبته هنا لنفاسته. قال الدكتور طه حسين بعد مقدمة وجيزة:
الحق أن ميدان هذه الخصومة أوسع من مجلة «الهلال»، وأن أبطال هذه الخصومة أكثر من الأستاذين سلامة موسى ومصطفى الرافعي. وإذا كان لنا ألَّا نُسرف في استقصاء التاريخ، وألَّا نذهب بالقارئ إلى ما بَعُدَ به العهد؛ فقد يكون لنا أن نُذكِّر القارئ بأن مصدر هذه الخصومة في هذه الأيام الأخيرة إنما هي صحيفة الأدب في «السياسة»، ففي الصيف الماضي اشتدت الخصومة بين الأستاذ الرافعي وطائفة من الكُتَّاب المصريين حول رسالة له بعث بها إلى «السياسة» تحت عنوان «أسلوب في العتب»، وذهب فيها مذهب المتكلِّفين من بعض الكتَّاب القدماء؛ فأنكر عليه بعض الكتَّاب المصريين جمال هذا الأسلوب، وكانت حول هذا الإنكار خصومة طويلة انتهت إلى الشتم والتنابُذ. ثم لم تَكَدْ تنتهي السنة الماضية حتى نشرت «السياسة» لكاتب أديب من كُتَّاب فلسطين هو الأستاذ خليل السكاكيني رسالة حول الأدب القديم والأسلوب الجديد، وحول الإيجاز والإطناب، تناول فيها بالنقد كاتبًا أديبًا من كُتَّاب سورية هو الأمير شكيب أرسلان، فردَّ عليه الأمير ردًّا طويلًا واشتدت المناقشة بين الكاتبين حتى انتهت إلى شيء من العنف ليس بقليل. ثم عرض الأستاذ سلامة موسى للأستاذ الرافعي في مجلة «الهلال» فعده مع الأمير شكيب أرسلان من زعماء المذهب القديم، وأشار إلى الكاتب الأديب خليل السكاكيني على أنه من أنصار المذهب الحديث.
هذا هو التاريخ القريب لهذه الخصومة بين القديم والجديد في الأدب، ويخطئ من ظَنَّ أن هذه الخصومة ستنتهي غدًا أو بعد غدٍ، ويخطئ من سأل نفسه عن قيمة هذه الخصومة وعن آثارها الحسنة أو السيئة؛ فستستمر هذه الخصومة في الأدب العربي كما استمرَّت في الآداب الأخرى، وكما استمرت في الأدب العربي القديم نفسه، وستنتج نتائجها التي أنتجتها في كل زمان وكل مكان؛ فينتصر جديد آخر ينتصر متى آن له الانتصار، وستظل الحال كذلك ما دام للغة العربية والأدب العربي حظ من حياة.
***
هذه الخصومة إذن مشروعة، سواء أَكانت نافعة أم لم تكُن؛ فليس الأدب العربي بِدْعًا من الآداب، وليس الأدب العربي العصري بدعًا من الآداب العربية المختلفة. فليختصمِ الأستاذان سلامة موسى ومصطفى صادق الرافعي، وليختصم الأديبان خليل السكاكيني وشكيب أرسلان، ولكن نظن أن من حقنا نحن القراء على هؤلاء المختصمين أن نسألهم: فِيمَ يختصمون؟ وأن نطلب إليهم في رفق ولين أن يتفضلوا فيحددوا لنا موضوع الخصومة حتى نتبعهم فيها على بصيرة من أمرها ومن أمرنا. فقد يظهر لنا إلى الآن أن هؤلاء المختصمين يختلفون في أشياء لم يستطيعوا بعدُ أن يحددوها، وآية ذلك أنك تقرأ مقال الأستاذ الرافعي فتجده يسأل: ما «المذهب الجديد»؟ وما «المذهب القديم»؟ ويحاول أن يتبين هذين المذهبين وما بينهما من فروق. ولو كانت الخصومة بينه وبين صاحبه واضحة الموضوع بيِّنة الحدود لما كلَّف نفسه هذا التساؤل، ولَمَا احتاج إلى أن يكتب كل هذا الفصل الطويل.
وقُلْ مثل هذا في الخصومة بين الأديبين خليل السكاكيني وشكيب أرسلان، فهما يختلفان في الإيجاز والإطناب والمساواة، يرى أحدهما أن الإطناب خَصلة من خصال اللغة العربية، قد عمد إليها أكبر الكُتَّاب وأرفعهم قدرًا منذ كان النثر العربي إلى الآن، فمن الحق أن نتبع طريقهم في ذلك. ويرى الآخر أن الإطناب خَصلة من خصال اللغة العربية ولكن له مقامه؛ فلا ينبغي أن يعمد إليه الكاتب — ولا سيما في هذا العصر — إلا بمقدار، وإلا حين تدعو إليه الحاجة الأدبية.
ويدور المختصمون جميعًا حول الذوق دون أن يحددوا هذا الذوق. أليس من حقنا أن نسألهم عن حَدِّ هذا الذوق ما هو وما حده وما الذي يريدون منه؟ ولا تقل إن الأستاذ الرافعي قد أجاب على هذا السؤال؛ فنحن نعترف بأن جوابه أَدَقُّ من أن نفهمه، وأشد غموضًا من أن نظهر عليه، وانظر إلى ما يقول في الذوق: «وأنت تعلم أن الذوق الأدبي في شيء إنما هو فهمه، وأن الحكم على شيء إنما هو أثر الذوق فيه، وأن النقد إنما هو الذوق والفهم جميعًا …» نعترف بأنَّا لا نفهم هذا الكلام، بل نعترف بأنَّا نعتقد أن هذا الكلام ليس من شأنه أن يُفهم. فإذا كان الذوق الأدبي في شيء إنما هو فهمه، وإذا كان الحكم على شيء إنما هو أثر الذوق فيه؛ فكيف نستطيع أن نفهم أن النقد إنما هو الفَهم والذوق جميعًا؟! ذلك أن الجملة الأولى صريحة في أن الذوق هو الفَهم، وإذن فالذوق والفهم لفظان يدلان على معنى واحد، وإذن فليسا شيئين وإنما هما شيء واحد هو الفهم، وإذن فالحكم أثر من آثار الفهم. والنقد هو الفهم، وإذن فالنقد والفهم والحكم والذوق كل أولئك شيء واحد تدل عليه ألفاظ مختلفة … نعترف كما قلنا بأننا لم نفهم هذه الجملة ولم نَذُقْها؛ وإذن فنحن لا نستطيع أن ننقدها ولا نحكم فيها لأن الذوق هو الفهم، والفهم هو الحكم، والنقد هو الذوق والفهم معًا. وتستطيع أن تدور في ذلك ما شاء الله أن تدور …
فما زال الأستاذ الرافعي مطالَبًا بأن يوضح لنا نظريته هذه في الذوق، ونحسبه يحتاج في توضيحها إلى عَناء كثير؛ ذلك أنه يخيل إلينا أن الذوق شيء والفهم شيء آخر، وأن من الإسراف أن نقول إن الذوق هو الفهم؛ فقد نفهم أشياء كثيرة دون أن نذوقها، وآية ذلك أنَّا نفهم كثيرًا من كلام الأستاذ الرافعي دون أن نذوقه أو نعجب به. وربما كان لنا أن نذهب إلى أكثر من هذا، فنزعم أننا قد نذوق أشياء كثيرة دون أن نفهمها، وإثبات ذلك ليس بالشيء العسير، فما نظن أن الذين يذوقون الموسيقى ويطربون لها يفهمونها جميعًا، بل نعتقد أن الكثرة المطلَقة من الذين يسمعون للموسيقى فيطربون ويتأثرون وينتهي بهم ذلك إلى شيء يشبه الذهول لا تفهم الموسيقى كما يفهما الموسيقيون الأخصائيون.
فأنت ترى أن الذوق والفهم شيئان مختلفان قد يجتمعان حينما تفهم قصيدة من الشعر أو فصلًا من النثر وتعجب بهما، وحينما تفهم قطعة من الموسيقى وتطرب لها، ولكنهما قد يفترقان حينما تقرأ فصلًا من فصول الكُتَّاب المتكلفين، أو قصيدة من نظم الشعراء المتكلفين، فتفهم النظم وتفهم النثر، ولكنك تكرههما وتسخط عليهما السخط الشديد، وحينما تسمع قطعة من الموسيقى فتعجب وتطرب دون أن تفهم ما أراد الموسيقي.
***
وللأستاذ الرافعي في فصله هذا آراء كهذا الرأي محتاجة إلى شيء من المناقشة، ومنها ما كان يحتاج إلى شيء من التواضع قبل أن يُنشر ويعلن إلى الناس. انظر إليه مثلًا يزعم أن المذهب الجديد في الأدب ليس في حقيقة الأمر إلا نتيجة لضعف في اللغة والأدب العربي، وقوة في اللغة والأدب الأجنبي … وإن الذين يزعمون أنهم من أنصار المذهب الجديد إنما هم قوم ضيَّعوا حظهم من لغة العرب وآدابهم، وأخذوا بنصيب موفور من لغات الفرنج وآدابهم؛ فكانت قوتهم في هذه اللغات والآداب وضعفهم في اللغة العربية وآدابها مصدر تورُّطهم في فنون سخيفة من القول، وكان اعتزازهم بالمذهب الجديد وإنكارهم للمذهب القديم ضربًا من الاعتذار لأنفسهم ولونًا من ألوان الغرور بأنفسهم أيضًا. نعتقد أن الأستاذ الرافعي مُسرِف في هذا الحكم، ولعل مصدر إسرافه في هذا الحكم — إن صحت نظريته السابقة — أنه أخطأ فهم ما يكتب أنصارُ المذهب الجديد، وهو إنما أخطأ الفهم لأنه أخطأ الذوق أو هو إنما أخطأ الذوق لأنه أخطأ الفهم، وتستطيع أن تدور مع الأستاذ الرافعي حول الذوق الذي هو الفهم، أو حول الذوق الذي ليس هو الفهم، والفهم الذي ليس هو الفهم حتى تتعبا فتسقُطا معًا وقد بلغ منكما الكلل والإعياء، ولكن الأستاذ الرافعي معذور على كل حال، فما كان له أن يحكم فيُحسن الحكمَ دون أن يفهم ويذوق، وهو قد يخطئه الفهم والذوق أحيانًا فتخطئه الإصابة في الحكم.
ونظن أن للأستاذ الرافعي حظًّا من الإنصاف، وأنه يرى معنا أن بعض أنصار المذهب الجديد أو الذين يُسَمَّوْنَ أنصار المذهب الجديد قد أخذوا من اللغة العربية وآدابها بحَظٍّ لا بأس به، وأن قوتهم في اللغة الأجنبية وآدابها لم تحملهم على أن يضيعوا حظهم من اللغة العربية وآدابها؛ فهم يستطيعون أن يفهموا الجاحظ كما يستطيعون أن يفهموا «فولتير». وإذن فانتصار هؤلاء لمذهب جديد ليس ضعفًا وليس اعتذارًا لأنفسهم وليس تعصُّبًا للأدب الأجنبي الذي تفوَّقوا فيه. وما نظن أن الأستاذ ينكر على خَصمه سلامة موسى أنه يفهم الأدب العربي كما يفهم الأدب الإنكليزي، ويستطيع أن يحكم فيهما عن فهم هو الذوق، أو الذوق هو الفهم، أو فهم ليس ذوقًا، أو ذوق ليس فهمًا … وما نظن أن الأستاذ ينكر علينا نحن أنَّا نستطيع أن نفهم الأدب العربي وأن نفهم الأدب الفرنسي وأن نحكم فيهما أحيانًا عن ذوق وفهم، أو عن فهم دون ذوق، أو عن ذوق دون فهم …
ثم هب سلامة موسى وغيره من خصوم الأستاذ الرافعي وأنصار المذهب الجديد ضِعافًا في اللغة العربية وآدابها، أقوياء في اللغات الأجنبية وآدابها، فهناك قوم ينصرون المذهب الجديد وليس لهم من اللغات الأجنبية وآدابها حَظٌّ، وحظهم من اللغة العربية وآدابها موفور تدل عليه آثارهم وما ينشرون، فما رأي الأستاذ في هؤلاء؟! وما أصل مذهبهم الجديد وهم يجهلون اللغات الأجنبية ولا يتعصَّبون لها؟! ثم ما لنا نذهب بالأستاذ بعيدًا عن الموضوع الذي أتقنه وبرع فيه. فلسنا نشك في أن الأستاذ أتقن الأدب العربي وأحسن روايته وفهمه وتقليده، وأسرف في هذا التقليد وهو يناقض نفسه بعض المناقضة، فيصرح بأن العرب عرفوا القديم والجديد، فكان القرآن الكريم جديدًا وكانت الآداب العباسية جديدة من بعض وجوهها، وتجددت الآداب العربية غير مرة، يصرح بهذا ولكنه في الوقت نفسه يزعم أن أحدًا من العرب وأدبائهم لم يذكر مذهبًا جديدًا ولا قديمًا؛ وإذن فقد تجددت الآداب العربية غير مرة دون أن يشعر العرب بهذا التجدُّد أو شعر العرب بهذا التجدد دون أن يذكروه.
والحق أن الآداب تجددت غير مرة، وأن العرب شعروا بهذا التجدد وأنهم ذكروه واختصموا فيه، كما يختصم فيه الأستاذ الرافعي وأصحابه الآن، وقد كتبنا في «السياسة» فصولًا طِوالًا في العام الماضي فَصَّلْنَا فيها بعض ما كان من الخصومة بين أنصار القديم وأنصار الجديد أيام بني العباس، وإذا كان العرب لم يصطنعوا لفظة «المذهب الجديد» و«المذهب القديم»؛ فليس ذلك دليلًا على أنهم لم يعرفوا القديم والجديد ولم يذكروهما ولم يختصموا حولهما. وما معنى لفظ «البديع»؟ وهل كان البديع جديدًا أم هل كان قديمًا؟ وهل اختصم الناس حول البديع أم هل قَبِلُوه دون مناقشة ولا جدال؟ وهل امتاز بالبديع من الكتَّاب والشعراء قوم غَلَوْا فيه فرضي عنهم قوم وأنكرهم آخرون؟ أم هل قبله الناس جميعًا وأخذوا منه بحظوظ متساوية؟ وإذا كان الأستاذ لا يُنكر أن العرب اختصموا حول القديم والجديد في الشعر وفي النثر؛ فهل يستطيع أن يعلل لنا هذا الاختصام؟ فليس من شك في أن أنصار الجديد من العباسيين مثلًا لم يكونوا ضِعافًا في اللغة العربية وآدابها، ولم يعتذروا لأنفسهم عن هذا الضعف بتعلُّقهم بالجديد وغُلُوِّهِم فيه. أكان أبو نواس ضعيفًا في اللغة العربية وآدابها؟ أكان أبو تمام ضعيفًا في اللغة العربية وآدابها؟ أكان المتنبي ضعيفًا في اللغة العربية وآدابها؟ ومع ذلك فقد جدد أبو نواس وانتصر للجديد، وقد جدد أبو تمام وانتصر للجديد، وقد جدد المتنبي وانتصر للجديد، وقد اختصم الناس حول هؤلاء الشعراء وتجديدهم؛ فانتصر لهم قوم وسخط عليهم قوم آخرون.
ونستطيع أن نؤكد للأستاذ الرافعي أن الأدباء الفرنسيين الذين كانوا يختصمون حول القديم والجديد كانوا يفهمون اللاتينية واليونانية وآدابهما كما يفهمون الفرنسية وآدابها، وكان منهم مع ذلك من يؤثِر اللاتينية واليونانية، ومنهم من يؤثر الفرنسية، وكان منهم من يؤثر مذهب القدماء، ومنهم من يؤثر مذهب المُحدَثين، فليس المذهب الجديد قائمًا على جهل أو ضعف أو تعصُّب، وإنما هو قائم على شيء آخر غير هذا كله. قائم على الفهم قبل كل شيء. قائم على أن الذين ينصرون هذا المذهب الجديد يحسون ما لا يحسه أنصار المذهب القديم، ويرون ما لا يراه أنصار المذهب القديم، ويشعرون بأنهم يحيون فيريدون أن يأخذوا بحظهم في الحياة، يريدون أن يفهموا الناس وأن يفهمهم الناس، يعيشون مع الجيل الذي هم فيه دون أن يقطعوا الصلة بينهم وبين الأجيال الماضية.
***
ورأي آخر للأستاذ الرافعي يحسن أن نناقشه ولو قليلًا، فهو يرى أن من الخير لأنصار المذهب الجديد أن يُولَدُوا من جديد، وأن يتعلموا الأدب العربي من جديد ليأخذوا منه الحظ الموفور، فيسلكوا فيه سبيل القدماء، ذلك خير لهم من أن ينتحلوا مذهبهم الجديد ولغتهم الجديدة فيُدخِلوا في اللغة والأدب ما ليس من حقهم أن يُدخِلوه؛ ذلك لأن اللغة موروثة وهي ملك لملايين من الأعمار ولطائفة طويلة من العصور، فيجب أن نقبلها كما ورِثناها دون أن نُدخِل فيها شيئًا من عند أنفسنا. ونحن نعترف بأننا نخالف الأستاذ كل المخالفة في هذا الرأي، ونسمح لأنفسنا بأن نراه عقيمًا، ونسمح لأنفسنا بأن نزعم أن لنا في هذه اللغة التي نتكلمها ونتخذها أداة للفهم والإفهام حظًّا يجعلها ملكًا لنا، ويجعل من الحق علينا أن نُضِيفَ إليها ونزيد فيها كلما دعت إلى ذلك الحاجة أو قضت ضرورة الفهم والإفهام أو كلما دعا إليه الظرف الفني. لا يقيدنا في ذلك إلا قواعد اللغة العامة التي تُفسِد اللغة إذا تجاوزناها؛ فليس لأحد أن يمنعك أو يمنعني أن نُضيفَ إلى اللغة لفظًا جديدًا أو نُدخِل فيها أسلوبًا جديدًا ما دام هذا اللفظ أو هذا الأسلوب ليس من شأنهما أن يُفسِدا أصلًا من أصول اللغة، أو يَخرُجا بها عن طريقها المألوفة، ولولا هذا وأن اللغة ملك لأبنائها يضيفون إليها ويدخلون فيها لَمَا نَمَت اللغة ولما عاشت، ولما استطاعت أن تفي حاجات أهلها التي تتجدد وتتنوع بتجدد الأزمنة وتبدل الظروف.
والكتَّاب والشعراء في كل عصر وفي كل مكان يضيفون إلى لغاتهم ويُدخِلون فيها ويُجدِّدونها، فمنهم من يسعده الحظ فتروج ألفاظه وأساليبه ويقبلها الناس ويتهالكون عليها حتى تشيع وتصبح جزءًا من اللغة المألوفة، ومنهم من يخطئه هذا الحظ فلا يحفل الناس بما أدخل ولا بما أضاف.
***
ومما يحسن أن ينبه إليه الأستاذ الرافعي في رفق ولين أيضًا أنه يُسْرِفُ في سوء الظن بأوروبا وأمريكا وفي سوء الحكم عليهما، ولعل مصدر ذلك أنه لا يقرأ لغة أوروبا وأمريكا ولا يفهمها ولا يذوقها؛ فهو يخطئ في الحكم على أوروبا وأمريكا. وهو مسرف حين يظن «أن في أوروبا وأمريكا من الغفلة مذهبًا، ومن الرقاعة مذهبًا، ومن تسفُّل الشهوات مذهبًا، ومن الجنون مذهبًا، ومن كل شذوذ مذهبًا، ومن غير المذهب مذهبًا …» هو مسرف في ذلك فليست أوروبا وأمريكا من السوء بحيث يظن، ولو قد بلغتا من السوء هذا الحد لما كان لهما التفوق على غيرهما من بلاد الله. ثم إن اختلاف المذاهب وتنوعها في أوروبا وأمريكا ليس شيئًا جديدًا وإنما هو شيء عرفه الإنسان منذ تحضَّر ومنذ فكر، ويسوءنا أن نقول إن الإنسان قد عرف الديانات منذ تحضَّر ومنذ فكر أيضًا، فما استطاعت الديانات أن تقضي على اختلاف المذاهب، ولا استطاع اختلاف المذاهب أن يقضي على الديانات، وإنما الإنسان إنسان فيه الخير وفيه الشر، فيه الإيمان وفيه الإلحاد، فيه الفضيلة وفيه الرذيلة، فيه الإباحة التي لا حَدَّ لها وفيه التحرُّج الشديد.
والأستاذ الرافعي كغيره من أنصار المذهب القديم مُشفِق كل الإشفاق على القرآن الكريم وعلى الإسلام أن يصيبهما من المذهب الجديد شر أو ينالهما ضيم. ونظن من السخف والإطالة التي لا تُجْدِي أن نُهَوِّنَ على الأستاذ ونهدئ من روعه؛ فليس ما يدعو إلى هذا الإشفاق، ونظن أننا — ونحن من أنصار المذهب الجديد المتشددين في نصره — نستطيع أن نفهم القرآن الكريم ونذوقه كما يفهمه الأستاذ وأصحابه ويذوقونه؛ ذلك أن مذهبنا الجديد لا يقتل اللغة ولا يصرف الناس عنها ولا يغير من أصولها وقواعدها، وإنما يريد أن تكون اللغة حية نامية. ومن ذكر الحياة والنمو فقد ذكر التطوُّر، ومن ذكر التطور وآمَن به فهو من أنصار المذهب الجديد سواء أرضي ذلك أم أنكره.
-

ليست هناك تعليقات: